سورة الروم - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الروم)


        


{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)}.
يبين تعالى كيف يخلق السحاب التي ينزل منها الماء فقال: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا}، إما من البحر على ما ذكره غير واحد، أو مما يشاء الله عز وجل. {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} أي: يَمُدّه فيكثّرهُ ويُنَمّيه، ويجعل من القليل كثيرا، ينشئ سحابة فترى في رأي العين مثل الترس، ثم يبسطها حتى تملأ أرجاء الأفق. وتارة يأتي السحاب من نحو البحر ثقالا مملوءة ماء، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57]، وكذلك قال هاهنا: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا}. قال مجاهد، وأبو عمرو بن العلاء، ومطر الوَرّاق، وقتادة: يعني قطعا.
وقال غيره: متراكما، قاله الضحاك.
وقال غيره: أسود من كثرة الماء، تراه مدلهما ثقيلا قريبا من الأرض.
وقوله {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} أي: فترى المطر- وهو القطر- يخرج من بين ذلك السحاب، {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أي: لحاجتهم إليه يفرحون بنزوله عليهم ووصوله إليهم.
وقوله: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ}، معنى الكلام: أن هؤلاء القوم الذين أصابهم هذا المطر كانوا قَنطين أزلين من نزول المطر إليهم قبل ذلك، فلما جاءهم، جاءهم على فاقة، فوقع منهم موقعا عظيما.
وقد اختلف النحاة في قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ}، فقال ابن جرير: هو تأكيد. وحكاه عن بعض أهل العربية.
وقال آخرون: وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم المطر، {مِنْ قَبْلِهِ} أي: الإنزال {لَمُبْلِسِينَ}.
ويحتمل أن يكون ذلك من دلالة التأسيس، ويكون معنى الكلام: أنهم كانوا محتاجين إليه قبل نزوله، ومن قبله- أيضا- قد فات عندهم نزوله وقتا بعد وقت، فترقبوه في إبانه فتأخر، فمضت مدة فترقبوه فتأخر، ثم جاءهم بغتة بعد الإياس منه والقنوط، فبعد ما كانت أرضهم مقشعرة هامدة أصبحت وقد اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج؛ ولهذا قال: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ} يعني: المطر {كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}.
ثم نبه بذلك على إحياء الأجساد بعد موتها وتفرقها وتمزقها، فقال: {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى} أي: إن الذي فعل ذلك لقادر على إحياء الأموات، {إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
ثم قال تعالى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ}، يقول {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا} يابسة على الزرع الذي زرعوه، ونبت وشب واستوى على سوقه، فرأوه مصفرا، أي: قد اصفر وشرع في الفساد، لظلوا من بعده، أي: بعد هذا الحال يكفرون، أي: يجحدون ما تقدم إليهم من النعم، كما قال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ. لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ. إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة: 63- 67].
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع، حدثنا هُشَيْم، عن يَعْلَى بن عطاء، عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، قال: الرياح ثمانية، أربعة منها رحمة، وأربعة عذاب، فأما الرحمة فالناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات. وأما العذاب فالعقيم والصرصر، وهما في البر، والعاصف والقاصف، وهما في البحر فإذا شاء سبحانه وتعالى حركه بحركة الرحمة فجعله رخاء ورحمة وبشرى بين يدي رحْمته، ولاقحًا للسحاب تلقحه بحمله الماء، كما يلقح الذكر الأنثى بالحمل، وإن شاء حركه بحركة العذاب فجعله عقيمًا، وأودعه عذابًا أليمًا، وجعله نقمة على من يشاء من عباده، فيجعله صرصرًا وعاتيًا ومفسدًا لما يمر عليه، والرياح مختلفة في مهابها: صبا ودبور، وجنوب، وشمال، وفي منفعتها وتأثيرها أعظم اختلاف، فريح لينة رطبة تغذي النبات وأبدان الحيوان، وأخرى تجففه، وأخرى تهلكه وتعطبه، وأخرى تسيره وتصلبه، وأخرى توهنه وتضعفه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبُيَد الله ابن أخي ابن وهب، حدثنا عمي، حدثنا عبد الله بن عَيْاش، حدثني عبد الله بن سليمان، عن دراج، عن عيسى بن هلال الصدَفي، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الريح مسخرة من الثانية- يعني الأرض الثانية- فلما أراد الله أن يهلك عادًا، أمر خازن الريح أن يرسل عليهم ريحًا تهلك عادًا، فقال: يا رب، أرسل عليهم من الريح قدر منخر الثور. قال له الجبار تبارك وتعالى: لا إذًا تكفأ الأرض وما عليها، ولكن أرسل عليهم بقدر خاتم»، فهي التي قال الله في كتابه: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذرايات: 42]. هذا حديث غريب، ورفعه منكر. والأظهر أنه من كلام عبد الله بن عمرو، رضي الله عنه.


{فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)}.
يقول تعالى: كما أنك ليس في قدرتك أن تسمع الأموات في أجداثها، ولا تبلغ كلامَك الصم الذين لا يسمعون، وهم مع ذلك مُدْبِرُون عنك، كذلك لا تقدر على هداية العميان عن الحق، وردهم عن ضلالتهم، بل ذلك إلى الله تعالى، فإنه بقدرته يسمع الأموات أصوات الأحياء إذا شاء، ويهدي مَنْ يشاء، ويضل مَنْ يشاء، وليس ذلك لأحد سواه؛ ولهذا قال: {إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} أي: خاضعون مستجيبون مطيعون، فأولئك هم الذين يستمعون الحق ويتبعونه، وهذا حال المؤمنين، والأول مَثَلُ الكافرين، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 36].
وقد استدلت أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، بهذه الآية: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}، على توهيم عبد الله بن عمر في روايته مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم القتلى الذين ألقوا في قَلِيب بدر، بعد ثلاثة أيام، ومعاتبته إياهم وتقريعه لهم، حتى قال له عمر: يا رسول الله، ما تخاطب من قوم قد جَيَّفوا؟ فقال: «والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يجيبون». وتأولته عائشة على أنه قال: «إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق».
وقال قتادة: أحياهم الله له حتى سمعوا مقالته تقريعًا وتوبيخًا ونقمة.
والصحيح عند العلماء رواية ابن عمر، لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة، من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححًا له، عن ابن عباس مرفوعًا: «ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم، كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه، حتى يرد عليه السلام».
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له، إذا انصرفوا عنه، وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول المسلم: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا هذا الخطاب لكانوا بمنزلة خطاب المعدوم والجماد، والسلف مجمعون على هذا، وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف بزيارة الحي له ويستبشر، فروى ابن أبي الدنيا في كتاب القبور عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده، إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم».
وروي عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: إذا مر رجل بقبر يعرفه فسلم عليه، رد عليه السلام.
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن رجل من آل عاصم الجَحْدَرِي قال: رأيت عاصمًا الجحدري في منامي بعد موته بسنتين، فقلت: أليس قد متّ؟ قال: بلى، قلت: فأين أنت؟ قال: أنا- والله- في روضة من رياض الجنة، أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المزني، فنتلقى أخباركم. قال: قلت: أجسامكم أم أرواحكم؟ قال: هيهات! قد بليت الأجسام، وإنما تتلاقى الأرواح، قال: قلت: فهل تعلمون بزيارتنا إياكم؟ قال: نعلم بها عشية الجمعة ويوم الجمعة كله ويوم السبت إلى طلوع الشمس، قال: قلت: فكيف ذلك دون الأيام كلها؟ قال: لفضل يوم الجمعة وعظمته.
قال: وحدثنا محمد بن الحسين، ثنا بكر بن محمد، ثنا حسن القصاب قال: كنت أغدو مع محمد بن واسع في كل غداة سبت حتى نأتي أهل الجبان، فنقف على القبور فنسلم عليهم، وندعو لهم ثم ننصرف، فقلت ذات يوم: لو صيرت هذا اليوم يوم الاثنين؟ قال: بلغني أن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة ويومًا قبلها ويومًا بعدها. قال: ثنا محمد، ثنا عبد العزيز بن أبان قال: ثنا سفيان الثوري قال: بلغني عن الضحاك أنه قال: من زار قبرًا يوم السبت قبل طلوع الشمس علم الميت بزيارته، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لمكان يوم الجمعة.
حدثنا خالد بن خِدَاش، ثنا جعفر بن سليمان، عن أبي التَّيَّاح يقول: كان مُطَرَّف يغدو، فإذا كان يوم الجمعة أدلج. قال: وسمعت أبا التياح يقول: بلغنا أنه كان ينزل بغوطة، فأقبل ليلة حتى إذا كان عند المقابر يقوم وهو على فرسه، فرأى أهل القبور كل صاحب قبر جالسًا على قبره، فقالوا: هذا مطرف يأتي الجمعة ويصلون عندكم يوم الجمعة؟ قالوا: نعم، ونعلم ما يقول فيه الطير. قلت: وما يقولون؟ قال: يقولون سلام عليكم؛ حدثني محمد بن الحسن، ثنا يحيى بن أبي بكر، ثنا الفضل بن الموفق ابن خال سفيان بن عيينة قال: لما مات أبي جزعت عليه جزعًا شديدًا، فكنت آتي قبره في كل يوم، ثم قصرت عن ذلك ما شاء الله، ثم إني أتيته يومًا، فبينا أنا جالس عند القبر غلبتني عيناي فنمت، فرأيت كأن قبر أبي قد انفرج، وكأنه قاعد في قبره متوشح أكفانه، عليه سِحْنَة الموتى، قال: فكأني بكيت لما رأيته. قال: يا بني، ما أبطأ بك عني؟ قلت: وإنك لتعلم بمجيئي؟ قال: ما جئت مرة إلا علمتها، وقد كنت تأتيني فأسر بك ويسر من حولي بدعائك، قال: فكنت آتيه بعد ذلك كثيرًا.
حدثني محمد، حدثنا يحيى بن بَسْطام، ثنا عثمان بن سُوَيْد الطُّفَاوي قال: وكانت أمه من العابدات، وكان يقال لها: راهبة، قال: لما احتضرت رفعت رأسها إلى السماء فقالت: يا ذخري وذخيرتي من عليه اعتمادي في حياتي وبعد موتي، لا تخذلني عند الموت ولا توحشني. قال: فماتت. فكنت آتيها في كل جمعة فأدعو لها وأستغفر لها ولأهل القبور، فرأيتها ذات يوم في منامي، فقلت لها: يا أمي، كيف أنت؟ قالت: أي: بني، إن للموت لكربة شديدة، وإني بحمد الله لفي برزخ محمود يفرش فيه الريحان، ونتوسد السندس والإستبرق إلى يوم النشور، فقلت لها: ألك حاجة؟ قالت: نعم، قلت: وما هي؟ قالت: لا تدع ما كنت تصنع من زياراتنا والدعاء لنا، فإني لأبشر بمجيئك يوم الجمعة إذا أقبلت من أهلك، يقال لي: يا راهبة، هذا ابنك، قد أقبل، فأسر ويسر بذلك مَنْ حولي من الأموات.
حدثني محمد، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن سليمان، حدثنا بشر بن منصور قال: لما كان زمن الطاعون كان رجل يختلف إلى الجبان، فيشهد الصلاة على الجنائز، فإذا أمسى وقف على المقابر فقال: آنس الله وحشتكم، ورحم غربتكم، وتجاوز عن مسيئكم، وقبل حسناتكم، لا يزيد على هؤلاء الكلمات، قال: فأمسيت ذات ليلة وانصرفت إلى أهلي ولم آت المقابر فأدعو كما كنت أدعو، قال: فبينا أنا نائم إذا بخلق قد جاءوني، فقلت: ما أنتم وما حاجتكم؟ قالوا: نحن أهل المقابر، قلت: ما حاجتكم؟ قالوا: إنك عودتنا منك هدية عند انصرافك إلى أهلك، قلت: وما هي؟ قالوا: الدعوات التي كنت تدعو بها، قال: قلت فإني أعود لذلك، قال: فما تركتها بعد.
وأبلغ من ذلك أن الميت يعلم بعمل الحي من أقاربه وإخوانه. قال عبد الله بن المبارك: حدثني ثور بن يزيد، عن إبراهيم، عن أيوب قال: تعرض أعمال الأحياء على الموتى، فإذا رأوا حسنًا فرحوا واستبشروا وإن رأوا سوءًا قالوا: اللهم راجع به.
وذكر ابن أبي الدنيا عن أحمد بن أبي الحواري قال: ثنا محمد أخي قال: دخل عباد بن عباد على إبراهيم بن صالح وهو على فلسطين فقال: عظني، قال: بِمَ أعظك، أصلحك الله؟ بلغني أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم من الموتى، فانظر ما يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم من عملك، فبكى إبراهيم حتى أخضل لحيته. قال ابن أبي الدنيا: وحدثني محمد بن الحسين، ثنا خالد بن عمرو الأموي، ثنا صدقة بن سليمان الجعفري قال: كانت لي شِرَّة سَمِجَة، فمات أبي فتبت وندمت على ما فرطت، ثم زللت أيما زلة، فرأيت أبي في المنام، فقال: أي بني، ما كان أشد فرحي بك وأعمالك تعرض علينا، فنشبهها بأعمال الصالحين، فلما كانت هذه المرة استحييت لذلك حياء شديدًا، فلا تخزني فِيمَنْ حولي من الأموات، قال: فكنت أسمعه بعد ذلك يقول في دعائه في السحر، وكان جارًا لي بالكوفة: أسألك إيابة لا رجعة فيها ولا حور، يا مصلح الصالحين، ويا هادي المضلين، ويا أرحم الراحمين.
وهذا باب فيه آثار كثيرة عن الصحابة. وكان بعض الأنصار من أقارب عبد الله بن رواحة يقول: اللهم إني أعوذ بك من عمل أخزى به عند عبد الله بن رواحة، كان يقول ذلك بعد أن استشهد عبد الله.
وقد شرع السلام على الموتى، والسلام على مَنْ لم يشعر ولا يعلم بالمسلم محال، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته إذا رأوا القبور أن يقولوا: «سلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية»، فهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويرد، وإن لم يسمع المسلم الرد، والله أعلم.


{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)}.
ينبه تعالى على تنقل الإنسان في أطوار الخلق حالا بعد حال، فأصله من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم يصير عظاما ثم يُكسَى لحما، ويُنفَخ فيه الروح، ثم يخرج من بطن أمه ضعيفا نحيفًا واهن القوى. ثم يشب قليلا قليلا حتى يكون صغيرًا، ثم حَدَثا، ثم مراهقًا، ثم شابا. وهو القوة بعد الضعف، ثم يشرع في النقص فيكتهل، ثم يشيخ ثم يهرم، وهو الضعف بعد القوة. فتضعف الهمة والحركة والبطش، وتشيب اللّمَّة، وتتغير الصفات الظاهرة والباطنة؛ ولهذا قال: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أي: يفعل ما يشاء ويتصرف في عبيده بما يريد، {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}.
قال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، عن فضيل ويزيد، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي، قال: قرأت على ابن عمر: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا}، فقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا}، ثم قال: قرأتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قرأت علي، فأخذ علي كما أخذتُ عليك.
ورواه أبو داود والترمذي- وحَسَّنه- من حديث فضيل، به.
ورواه أبو داود من حديث عبد الله بن جابر، عن عطية، عن أبي سعيد، بنحوه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7